بين النفط والجوع.. كيف ضيّق الفساد الخناق على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في جنوب السودان؟
بين النفط والجوع.. كيف ضيّق الفساد الخناق على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في جنوب السودان؟
أصدرت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة الأربعاء تقريراً استقصائياً مفصلاً خلص إلى أن الفساد المنهجي ونهب ثروات الدولة على أيدي نخب سياسية فاعلة شكّلا المحرك الأساسي لأزمة حقوق الإنسان في جنوب السودان، وأن هذه الممارسات أدت إلى تفاقم الجوع، وتدهور الخدمات الصحية والتعليمية، وإذكاء النزاعات حول الموارد.
التقرير مبني على سنتين من التحقيقات والتحليلات، ويقدم أدلة عن صفقات وعقود وأنظمة مالية سرية استنزفت إيرادات الدولة، بينما ظل ملايين المواطنات والمواطنين بلا خدمات أساسية أو حماية اجتماعية، وفق المفوضية السامية لحقوق الإنسان.
آليات الفساد
تتضح آليات الفساد في جنوب السودان عبر قنوات متعددة، على رأسها إدارة عائدات النفط التي شكلت المورد الحاسم للدولة منذ الاستقلال عام 2011، وفق التحقيق الأممي، تجاوزت الإيرادات النفطية منذ الاستقلال عشرات مليارات الدولارات، لكن جزءاً ضخماً من هذه الأموال لم يذهب إلى الميزانية العامة لتقديم الخدمات للمواطنين، وقد تحول برنامج النفط مقابل الطرق الذي أُعلن كخطة للبناء والتعمير إلى آلية لصرف أموال باهظة لشبكات مرتبطة بنخبة سياسية، بينما بقيت المشاريع إما غير مكتملة أو مبالغاً في تكلفتها، التحقيق الأممي يذكر أرقاماً دقيقة حول مبالغ مخصصة ومفقودة، ما يبيّن أن التلاعب المؤسسي منظّم وليس استثناءً.
النتائج المباشرة على الحقوق الأساسية
تسبّب التحويل المنهجي للموارد إلى جيوب خاصة في تفريغ قدرات الدولة على توفير الغذاء والرعاية الصحية والتعليم، يضع التقرير أمثلة ملموسة: مبالغ بالمليارات ذهبت لشركات مرتبطة بمسؤولين نافذين بينما شهدت البلاد زيادة حادة في معدلات سوء التغذية والموت القابل للوقاية، وتراجع الإنفاق على القطاعات الاجتماعية إلى نسب ضئيلة، مع إسناد تقديم خدمات حيوية إلى الجهات المانحة والمنظمات الإنسانية، أما عن الأمن الغذائي فقد أشار التقرير إلى أن نسبة واسعة من السكان في جنوب السودان تواجه مستويات أزمة أو طوارئ غذائية، ما يجعل الفساد عامل موت فعلياً في حياة كثيرين.
الجذور السياسية والمؤسسية للفساد
لفهم لماذا نجحت عمليات النهب، لا بد من الإشارة إلى عوامل بنيوية تتمثل في دولة حديثة الولادة بعد عقود من النزاع، ومؤسسات هشّة لم تُبنى على قواعد الشفافية والمساءلة، ونظام مالي وإداري يفتقر إلى رقابة فعالة، إضافة لذلك، أتاح هيكل الاقتصاد المعتمد اعتماداً شبه كامل على النفط إمكانية تركيز موارد ضخمة في أيدٍ قليلة، كما أن الاتفاقات السياسية المتعاقبة لم تُترجم إلى إصلاحات مالية أو قضائية حقيقية، وهو ما غذّى منطق الإفلات من العقاب ورفع من كلفة الخدمات العامة على السكان وفق المفوضية السامية لحقوق الإنسان.
ردود الفعل الدولية والمنظمات الحقوقية
لقي تقرير اللجنة الأممية تفاعلاً دولياً وإقليمياً سريعاً: المنظمات الحقوقية الدولية رحبت بتفاصيل التقرير واعتبرته دعوة عاجلة للمساءلة، بينما دعت جهات متعددة إلى مراجعة شكل الدعم الخارجي وعلاقات التعاون الأمني مع الجهات المتهمة بالفساد.
المجلس الأممي المشرف على اللجنة طالب باتخاذ خطوات عملية لمراجعة العقود المتورطة وإلغاء الصفقات الفاسدة، كما طرح التقرير توصيات ملموسة لإصلاح أنظمة التحصيل المالي وإجراءات الشراء الحكومية، وفي المقابل، رفضت الحكومة في جوبا كثيراً من نتائج التحقيق ووصفت بعضها بأنه يفتقر إلى الحيادية، وهو رد فعل معتاد يسجله الخبر الدولي حين يتم استدعاء قيادات الدولة للمساءلة.
القانون الدولي وسبل المساءلة
يضع التقرير سياسات واضحة للمساءلة تشمل توثيق العقود المشبوهة وإحالتها إلى تحقيقات جنائية مستقلة، وتفعيل آليات الولاية القضائية العالمية عند الاقتضاء، وفرض تدابير محددة الأهداف على الأفراد والكيانات المتورطة، كما دعا إلى دعم المسارات أمام جهات قضائية دولية عندما تثبت أن الجرائم الاقتصادية ترافقها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وتضمنت توصيات اللجنة أيضاً دعوات لمراجعة المساعدات التقنية والمالية الموجّهة للدولة بحيث لا تعيد تمكين شبكات الفساد، بل تشرع لأنظمة شفافة قابلة للمراجعة.
تداعيات إنسانية وسياسية بعيدة المدى
الأثر الحقيقي للفساد لا يقاس بالأرقام المالية وحدها؛ إنه يقاس بحياة الناس وسبل عيشهم المستقبلية، وانهيار الخدمات الصحية وزيادة وفيات يمكن تفاديها، وانخفاض معدلات التحاق المدارس، واتساع دائرة الفقر تُضعف العقد الاجتماعي وتغذي العنف والنزاع مرة أخرى، وسياسياً، تصاعد الغضب الشعبي وفقدان الثقة في المؤسسات قد يؤديان إلى تفكك المسارات السياسية المتفق عليها داخلياً، ويزيدان اعتمادية الدولة على مصادر تمويل مشبوهة أو على قوى خارجية قد تشترط سياسات محلية تقوّض السيادة.
خلاصة وتوصيات قابلة للتنفيذ
تخلص اللجنة إلى أن الفساد في جنوب السودان ليس ظاهرة ثانوية يمكن السماح لها بالاستمرار؛ إنه محرك للأزمة الإنسانية ويجب مقاتلته بخطة مزدوجة: إجراءات تحقيق ومقاضاة ضد المصارف والوسطاء المتورطين، وإصلاحات مؤسسية عاجلة تشمل رقابة مالية حقيقية، إتاحة معلومات الموازنات العامة للجمهور، وإدارة شفافة لعائدات النفط، كما دعت اللجنة المجتمع الدولي إلى دعم انتقال مالي مشروط بإجراءات رقابية، ومراجعة الخيارات الداعمة التي قد تشرعن الإفلات من المسؤولية.
بشأن الترتيبات العاجلة، أوصت اللجنة بفتح تحقيقات دولية مستقلة وتجميد العقود المشتبه بها وإعادة توجيه الموارد المخصصة للطوارئ الغذائية والصحية فوراً.
جنوب السودان نال استقلاله عام 2011 بعد عقود من الحرب، لكنه ظل بلدياً هشاً اقتصادياً وسياسياً، مع اعتماد شبه كامل على النفط كمصدر للدخل، ومؤشرات الحكم الرشيد والشفافية تصنفه ضمن الدول الأدنى في مؤشرات الفساد عالمياً، فيما تُظهر بيانات الأمم المتحدة أن جزءاً كبيراً من السكان يعاني انعدام الأمن الغذائي وخدمات عامة متداعية، ما يجعل معالجة الفساد شرطاً أساسياً لأي أفق مستدام للسلام والتنمية.